شريط الأخبار

الحَجُّ وَأَسْرَارُهُ

د. ناصر معروف - خطيبٌ بِوَزَارَةِ الأَوْقَافِ منذ 0 ثانية 2936

قَالَ اللهُ تَعَالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ:97]، وَالمُلَاحَظُ: أَنَّ جَمِيعَ التَّكَالِيفِ جَاءَتْ تَكْلِيفًا لِلْمُؤْمِنِينَ مُبَاشَرَةً؛ إِلَّا فَرِيضَةَ الحَجِّ جَاءَتْ بِهَذَا النَّصِّ (وَللهِ عَلَى النَّاسِ)، وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ وَاضِحَةٌ أَنَّ الحَجَّ لَمْ يُفْرَضْ عَلَى المُسْلِمِينَ فَقَطْ؛ وَإِنَّمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَى جَمِيعِ النَّاسِ قَاطِبَةً مُسْلِمِهِمْ وَكَافِرِهِمْ، وَالآيَةٌ دَعْوَةٌ لِكَافَّةِ النَّاسِ أَنْ يُلَبُّوا نِدَاءَ اللهِ وَيَدْخُلُوا فِي دِينِهِ، وَهَذَا مَا تَمَيَّزَ بِهِ المُسْلِمُونَ، فَهُمْ وَحْدَهُمْ مَنْ لَبَّى النِّدَاءَ.

وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالى: ﴿وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ [الحَجَّ:27]، وَلِنَتَأَمَّلَ قَوْلَهُ: (عَمِيقٍ)، وَلَمْ يَقُلْ: (بَعِيدٍ)، وَفِي ذَلِكَ إِعْجَازٌ، فَقَدْ كَانَ الصَّحَابَةُ يَرَوْنَ أَنَّ مَكَّةَ هِيَ مَرْكَزُ الأَرْضِ وَهِيَ أَبْرَزُ مَكَانٍ فِيهَا، فَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ العَاصِ فِي الحَدِيثِ المَوْقُوفِ أَنَّهُ قَالَ: «خَلَقَ اللهُ البَيْتَ قَبْلَ الأَرْضِ بِأَلْفِ عَامٍ، وَكَانَ إِذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ زَبْدةً بَيْضَاءَ، وَكَانَتِ الأَرْضُ تَحْتَهُ كَأَنَّهَا حَشَفَةٌ، فَدُحِيَتِ الأَرْضُ مِنْ تَحْتِهِ» [الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (6/20) بِسَنَدٍ رُوَاتُهُ ثِقَاتٌ].

وَالفَجُّ هُوَ الطَّرِيقُ الوَاسِعُ بَيْنَ جَبَلَيْنِ، فَكَأَنَّ مَنْ قَصَدَ حَبِيبَهُ يَسْلُكُ الطَّرِيقَ إِلَيْهِ رُغْمَ مَا فِيهَا مِنْ مَشَقَّةٍ؛ حَتَّى وَلَوْ كَانَتْ فِي أَعَالِي الجِبَالِ، وَهَذَا مَا يُمَيِّزُ المُسْلِمِينَ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَقَدْ لَبَّى المُسْلِمُونَ وَحْدَهُمْ دَعْوَةَ رَبِّهِمْ صَادِعِينَ بـِ (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ)، وَمِنْ هُنَا حُقَّ لَهُمْ أَنْ يَعُودُوا كَيَوْمِ وَلَدَتْهُمْ أُمَّهَاتُهُمْ.

وَبِهَذِهِ التَّلْبِيَةِ يُثْبِتُ المُسْلِمُونَ أَنَّهُمْ لَا زَالُوا يُحَافِظُونَ عَلَى إِنْسِيَّتِهِمْ، وَيَبْقَوْنَ فِي الدَّائِرَةِ التِي مِنْ أَجْلِهَا خَلَقَهُمُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، أَمَّا غَيْرُهُمْ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ إِنْسِيَّتِهِ وَأَصْبَحَ شَيْطَانًا كَمَا قَالَ تَعَالى عَنْ إِبْلِيسَ: ﴿إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ﴾ [الكَهْف:50]، أَيْ: كَانَ مِنَ الجِنِّ وَهُوَ خَاضِعٌ عَابِدٌ، فَلَمَّا خَرَجَ عَنِ الخُضُوعِ خَرَجَ عَنْ جِنِّيَّتِهِ وَأَصْبَحَ شَيْطَانًا رَجِيمًا، وَهَكَذَا الإِنْسُ عِنْدَمَا يَخْرُجُونَ عَنِ الخُضُوعِ للهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ، يَخْرُجُونَ عَنْ إِنْسِيَّتِهِمْ وَيُصْبِحُونَ شَيَاطِينَ.

وَالحَجُّ بِمَنَاسِكِهِ يُنَبِّهُ لِحِكَمٍ عَظِيمَةٍ تَحْتَاجُ إِلَى تَفَكُّرٍ عَمِيقٍ، فَالْحَجُّ هُوَ الْقَصْدُ، وَلَكِنْ لَا يُقَالُ هَذَا اللَّفْظُ إِلَّا إِذَا كَانَ الْقَصْدُ لِمَحْبُوبٍ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ المَعْنَى لِلْحَجِّ هُوَ: قَصْدَ بَيْتِ المَحْبُوبِ.

وَلِذَلِكَ، فَإِنَّ الخُطْوَةَ الأُوْلَى لِقَصْدِ بَيْتِ الْمَحْبُوبِ هِيَ التِي تُعِيدُ الإِنْسَانَ إِلَى مَسَارِهِ الصَّحِيحِ، وَهِيَ: (الإِحْرَامُ)، فـَ(الإِحْرَامُ) يُعْتَبَرُ الوِلَادَةَ الجَدِيدَةَ لِلْإِنْسَانِ، وَيُذَكِّرُ بِالْمَوْتِ وَالآخِرَةِ، فَخَلْعُ المَلَابِسِ المُعْتَادَةِ يُعْطِي مَعْنىً لِمَنْ قَصَدَ مَحْبُوبَهُ: بِأَنَّنِي جِئْتُكَ خَالِعًا كُلَّ مَاضٍ مُقْبِلاً عَلَيْكَ بِلِبَاسٍ جَدِيدٍ أَتَجَرَّدُ فِيهِ مِنْ كُلِّ الآثَامِ المَاضِيَةِ، كَمَا تُذَكِّرُ مَلَابِسُ الإِحْرَامِ بِلَبْسِ الكَفَنِ عِنْدَ المَوْتِ، وَالذَّهَابِ إِلَى اللهِ تَعَالى تَارِكًا الدُّنْيَا التِي أَتْعَسَتْهُ وَأَتْعَبَتْهُ وَرَاءَهُ ظِهْرِيًّا، و(الطَّوَافُ): هو الذِي يُمَثِّلُ قِمَّةَ العَقِيدَةِ السَّلِيمَةِ؛ حَيْثُ إِنَّهُ الانْقِيَادُ الكَامِلُ للهِ تَعَالى، فَالحَاجُّ يَكُونُ فِيهِ مُسْتَسْلِمًا مُنَفِّذًا مَا يُكَلَّفُ بِهِ مُنْقَادًا إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ يَطُوفُ حَوْلَ أَحْجَارٍ، وَيُقَبِّلُ حَجَرًا وَهُوَ الحَجَرُ الأَسْوَدُ، وَبَعْدَهَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يَرْجُمَ حَجَرًا (رَمْيَ الجَمَرَاتِ)، فَمَنِ الذِي دَفَعَ الإِنْسَانَ إِلَى فِعْلِ هَذَا؟! أَلَيْسَ هُوَ الاسْتِسْلَامَ وَالانْقِيَادِ للهِ تَعَالى؟!

فَبِالْإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ كَأَنَّكَ تَقُولُ: يَا رَبِّ، هَا أَنَا قَدْ أَتَيْتُكَ لِأُجَدِّدَ الْعَهْدَ مَعَكَ وَأَسْتَسْلِمَ إِلَيْكَ فِي كُلِّ مَا تَأْمُرُ بِهِ وَمَا تَنْهَى عَنْهُ، وَدَلِيلِي صِدْقُ قَصْدِي أَنَّنِي أُنَفِّذُ أَمْرًا لَا أَفْهَمُهُ، فَلَا أَفْهَمُ لِمَاذَا أُقَدِّسُ حَجَرًا وَأَرْجُمُ حَجَرًا، مَعَ أَنَّهَا مِنْ مَادَّةٍ وَاحِدَةٍ؟!.

مقالات مشابهة

الحَجُّ وَأَسْرَارُهُ

منذ 0 ثانية

د. ناصر معروف - خطيبٌ بِوَزَارَةِ الأَوْقَافِ

المسجد دوره ومكانته في موضوعات القصة الإسلامية المعاصرة

منذ 23 دقيقة

أ. مبارك عبد الله – داعية اسلامي

لماذا يهرب الناس من المساجد؟

منذ 24 دقيقة

أ. فتحي عبد الستار – داعية إسلامي

الرِّفْقُ واللِّيْنُ في حياةِ المسلمينَ

منذ 31 دقيقة

د. شادي حمزة طبازة - خطيب بوزارة الأوقاف

الوسائط

هدفنا الارتقاء بأداء العاملين في إدارة المساجد وتطوير الأنشطة المسجديةإقرء المزيد عنا

كُن على تواصل !!

آخر الأخبار

الحَجُّ وَأَسْرَارُهُ

منذ 0 ثانية2936
مسجد الشهيد طارق أبو الحصين - رفح

منذ 2 دقيقة3083
أنشطة وأفكار إبداعية لاستغلال العطلة الصيفية

منذ 4 دقيقة7163
Masjedna © Copyright 2019, All Rights Reserved Design and development by: Ibraheem Abd ElHadi