مِنَ الاسْتِرَاتِيجِيَّاتِ المُعَاصِرَةِ فِيمَا يُسَمَّى بِحَرْبِ العِصَابَاتِ اسْتِرَاتِيجِيَّةُ الكَرِّ وَالفَرِّ، وَلَقَدْ أَشَارَ القُرْآنُ الكَرِيمُ وَالسُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ فِي مَعْرَضِ حَدِيثِهِما عَنْ فِقْهِ الجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالى وَأَدَوَاتِهِ وَغَايَاتِهِ إلى اسْتِرَاتِيجِيَّةِ الكَرِّ وَالفَرِّ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللهِ تَعَالى: ﴿وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَىٰ فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ ۖ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الأَنْفَال:16]، وَيَقُولُ رَسُولُنا الكَرِيمُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «الحَرْبُ خُدْعَةٌ»، وَيَقُولُ الفَارُوقُ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "لَسْتُ بِالخِبِّ، وَلَا الخِبُّ يَخْدَعُنِي"، والخِبُّ هُوَ الخَبِيثُ صَاحِبُ المَكْرِ السَّيِّءِ.

إِنَّ رُؤْيَةَ الشَّبَابِ الثَّائِرِ فِي مَسِيرَةِ العَوْدَةِ الكُبْرَى، وَحَرَكَةَ الكَرِّ وَالفَرِّ، وَالتَّكْتِيكَ الذِي يَصْنَعُونَهُ، خَاصَّةً فِي اسْتِرَاتِيجِيَّةِ "الأَطْبَاقِ الحَارِقَةِ" وَغَيْرِها، تُذَكِّرُنا بِمَا كَانَ مَعَ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ خَاصَّةً، فَقَدْ وَرَدَ فِي الأَثَرِ عَنْ عُرْوَةَ بنِ الزُّبيرِ قَالَ: فَلَمَّا دَنَوا مِنَ المَدِينَةِ [أصحابُ مُؤْتَةَ] تلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالمُسْلِمُونَ، قال ولقِيهُم الصِّبيانُ يشتدُّونَ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُقْبِلٌ مَعَ القَوْمِ عَلى دَابَّةٍ، فَقَالَ: «خُذُوا الصِّبْيَانَ فَاحْمِلُوهُمْ، وَأَعْطُونِيَ ابْنَ جَعْفَرَ»، فَأُتِيَ بِعَبْدِ اللَّهِ فَأَخَذَهُ فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، قَالَ: وَجَعَلَ النَّاسُ يَحْثُونَ عَلَى الجَيْشِ التُّرَابَ، وَيَقُولُونَ: يَا فُرَّارُ؛ فَرَرْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قال: فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَيْسُوا بِالفُرَّارِ، وَلَكِنَّهُمُ الكُرَّارُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» [ابْنُ كَثِيرٍ، البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ،4/253 ].

لَقَدْ شَكَّلَ احْتِضَانُ المُشَارِكِينَ فِي مَسِيرَةِ العَوْدَةِ الكُبْرَى، وَاحْتِشَادُ الأَعْدَادِ المُؤَازِرَةِ لِهَؤُلَاءِ الشَّبَابِ الثَّائِرِ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَكِبَارِ السِّنِّ مَصْدَرَ تَحْفِيزٍ وَتَشْجِيعٍ يَنْحَازُ إِلَيْهِ الثَّائِرُونَ، وحَالَةً مِنَ الإِبْدَاعِ الثَّوْرِيِّ وَالتَّكْتِيكِيِّ عَلَى جَمِيعِ الأَصْعِدَةِ التِي أَصْبَحَ تَأْثِيرُها وَاضِحَاً فِي إِغَاظَةِ العَدُوِّ الصُّهْيُونِيِّ وَإِيلَامِهِ كَمَا اعْتَرَفَ، لِتَتَجَسَّدَ اسْتِرَاتِيجِيَّةُ "الكَرِّ وَالفَرِّ" بِشَكْلٍ مُحْتَرِفٍ.

وَمِنَ المَعَانِي الاسْتِرَاتِيجِيَّةِ التِي يَحْمِلُهَا تَكْتِيكُ "الكَرِّ وَالفَرِّ" كَضَرُورَةٍ شَرْعِيَّةٍ حَرْبِيَّةٍ دَيْمُومَةُ التَّخْطِيطِ وَالفِكْرِ، وَإِعْمَالُ العَقْلِ، وَالنَّفَسُ الطَّوِيلِ، قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [آل عمران:200]، وَمِنَ المَعَانِي الاسْتِرَاتِيجِيَّةِ كَذَلِكَ الابْتِعَادُ عَنْ الاسْتِخْذَاءِ وَالانْهِزَامِ النَّفْسِيِّ فِي المَعَارِكِ، فَالْحَرْبُ سِجَالٌ، وَلَهَا صَوْلاتٌ وَجَوْلَاتٌ، فَفِي الحَدِيثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: «رَأَيْتُ كَأَنِّي فِي دِرْعٍ حَصِينَةٍ، وَرَأَيْتُ بَقَرًا تُنْحَرُ، فأَوَّلْتُ أنَّ الدِّرْعَ الحَصِينَةَ المَدِينَةُ، وأنَّ البَقَرَ نَفَرٌ -وَاللهِ- خَيْرٌ»، فَقَالَ أَصْحَابُهُ -رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ-: لَوْ أَنَّا أَقَمْنَا بِالْمَدِينَةِ، فَإِنْ دَخَلُوا عَلَيْنَا فِيهَا قَاتَلْنَاهُمْ، فَقَالُوا: واللهِ يَا رَسُولَ اللهِ ما دُخِلَ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ، فَكَيْفَ يُدْخَلُ عَلَيْنَا فِيهَا فِي الإِسْلَامِ؟!، فَقَالَ: «شَأْنُكُمْ إذًا»، فلَبِسَ لَأْمَتَهُ، فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: رَدَدْنا عَلَى رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأْيَهُ، فَجَاؤُوا فَقَالُوا: يَا نَبِيَّ اللهِ شَأْنُكَ إذًا، فَقَالَ: «إِنَّهُ لَيْسَ لِنَبِيٍّ إِذَا لَبِسَ لَأْمَتَهُ أَنْ يَضَعَها حَتَّى يُقَاتِلَ» [مَجْمَعُ الزَّوَائِدِ: 6/110].

فَيَا أَيُّها الكَرَّارُونَ أَنْشِدُوا حُدَاءَكُمْ:

وَقَدْ عَـلِمَ العَـادُونَ أَنَّـا أُسُودُهـــا  ***مَتَى جَمَعَتْنا فِي الخُطُوبِ المَجَامِـعُ

وَإِنَّـا لَكَرَّارُونَ فِي الحَرْبِ خُدْعَـةً *** وَنَغْشَى الوَغَى صِيدَاً وَمَا نَحْنُ نَفْزَعُ