شريط الأخبار

لَا تَكُنْ سَرِيعَ الغَضَبِ؛ فَتَصِيرَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ

أ. وفا محمود عياد - خطيب بوَزارة الأوقاف منذ 0 ثانية 2993

الحِلْمُ وَالأَنَاةُ هُمَا مِنْ خِصَالِ الخَيْرِ التِي يَتَمَيَّزُ بِهَا الرِّجَالُ العُظَمَاءُ، وَلَا تَحْظَى بِهَا إِلَّا النُّفُوسُ القَوِيَّةُ، وَلَا يَقْوَى عَلَيْها إِلَّا أَهْلُ العَزْمِ وَالهِمَّةِ، يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَٰلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشُّورَى:43]، وَلِمَا فِي هَذِهِ الصِّفَاتِ مِنْ كَمَالٍ لِلْرُّجُولَةِ فَإِنَّ اللهَ تَعَالى يُحِبُّ أَنْ يَتَخَلَّقَ بِهَا المُؤْمِنُونَ، حَيْثُ قَالَ النَّبِيُّ لِأَشَجِّ عَبْدِ القَيْسِ: «إِنَّ فِيكَ خَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ: الْحِلْمُ، وَالأَنَاةُ» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، أَيْ التَّثَبُّتُ فِي الأُمُورِ وَتَرْكُ العَجَلَةِ وَضَبْطُ رَدَّاتِ الفِعْلِ وَاحْتِمَالُ الأَذَى، وَأَنْ لَا يَسْتَفِزَّكَ الغَضَبُ؛ وَلِهَذَا جَاءَتْ وَصِيَّةُ النَّبِيِّ مُوْجَزَةً تَصْلُحُ شِعَاراً لِكُلِّ مَنْ يُخَالِطُ النَّاسَ وَضَرُورَةً لِمَنْ يَتَوَلَّى فِيهِمُ المَسْئُولِيَّةَ: «لَا تَغْضَبْ»؛ لِأَنَّ الغَضَبَ مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ، وَهُوَ الذِي قَدْ يَضْطَرُّكَ إِلَى ذُلِّ الاعْتِذَارِ كَمَا أَنَّ الحِلْمَ لَا يُعْرَفُ إِلَّا عِنْدَ الغَضَبِ.

وَقِصَّةُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ الأَعْرَابِيِّ الذِي بَالَ فِي المَسْجِدِ مَعْرُوفَةٌ، وَرَأَيْنا كَيْفَ وَسِعَهُ حِلْمُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَمَاهُ مِنْ غَضَبِ الصَّحَابَةِ، وَالوَاحِدُ مِنَّا رُبَّما تَسْتَفِزُّهُ سُلُوكِيَّاتٌ أَهْوَنُ وَأَبْسَطُ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى تُخْرِجَهُ مِنْ عَقْلِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَلَمَّا قَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ لِلْنَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ يَقْسِمُ الغَنَائِمَ: "اعْدِلْ"، فَاسْتَوْعَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الاسْتِفْزَازَ وَلَمْ يَزِدْ فِي رَدِّهِ عَلَى أَنْ قَالَ: «وَيْحَكَ! وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ، فَقَدْ خِبْتُ وَخَسِرْتُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ» [رَوَاهُ البخاري]، وَمَنَعَ الصَّحَابَةَ الكِرَامَ مِنْ مُعَاقَبَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ، وَبَعْضُنَا قَدْ يَسْمَعُ مِنْ أَخِيهِ نَقْداً مُحِقَّاً مُؤَدَّباً فَيَحْمَرُّ أَنْفُهُ، وَتَتَفَلَّتُ مِنْ لِسَانِهِ الأَلْفَاظُ الخَشِنَةُ، وَيَكُونُ رَدُّهُ مَمْزُوجاً بِالْعَصَبِيَّةِ وَالشَّرَاسَةِ التِي تَذُوبُ مِنْ حَرَارَتِها مَشَاعِرُ الأُخُوَّةِ التِي تَرْبُطُ بَيْنَنا، غَيْرَ أَنَّ الإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ غَضَبٍ، فَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَغْضَبُ وَلَكِنْ لَيْسَ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا إِذَا انْتُهِكَتْ حُرُمَاتُ اللهِ.

وَهَذَا الفَارُوقُ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ، وَقَالَ لَهُ: "هِيْ يَا بْنَ الخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الجَزْلَ وَلاَ تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالعَدْلِ"، فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ أَحَدُ جُلَسَائِهِ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللهَ تَعَالى قَالَ لِنَبِيِّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي القُرْآنِ الكَرِيمِ: ﴿خُذِ العَفْوَ وَأْمُرْ بِالعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ﴾ [الأَعْراف:199]، وَإِنَّ هَذَا مِنَ الجَاهِلِينَ، فَمَا جَاوَزَها عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- حِينَ تَلَاها عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافاً عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ.

قَدْ تَغْضَبُ وَتَسْتَفِزُّكَ بَعْضُ المَوَاقِفِ مِنْ إِخْوَانِكَ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يُعْطِيكَ الحَقَّ بِأَنْ تُسِيءَ المُعَامَلَةَ أَوْ تَتَجَاوَزَ وَتَعْتَدِيَ؛ فَقَدْ أَوْصَى بَعْضُ السَّلَفِ تِلْمِيذاً لَهُ، قَالَ: "لَا تَغْضَبْ"، فَقَالَ: لَا أَقْدِرُ، قَالَ: "فَإِنْ غَضِبْتَ فَأَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ وَيَدَكَ".

إِنَّ الحِلْمَ وَالأَنَاةَ وَكَظْمَ الغَيْظِ صِفَاتٌ يُمْكِنُكَ اكْتِسَابُهَا وَتَعَلُّمُهَا وَالتَّدْرُّبُ عَلَيْها، وَلَا يُقْبَلُ مِنْكَ الادِّعَاءُ بِأَنَّ اللهَ خَلَقَكَ سَرِيعَ الغَضَبِ، فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيحِ الجَامِعِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ، وإِنَّما الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ» [صححه الألباني]، وَكَانَ الأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ -وَقَدِ اشْتُهِرَ بِالْحِلْمِ- يَقُولُ: "لَسْتُ بِحَلِيمٍ وَلَكِنَّنِي أَتَحَلَّمُ"، وَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ فِي هَذَا المَقَامِ مَنْ كَانَ "بَطِيءَ الْغَضَبِ سَرِيعَ الْفَيْءِ" كَمَا قَالَ.

فَابْحَثْ لِنَفْسِكَ عَنْ مَكَانٍ بَيْنَ الأَخْيَارِ، فَلَا تَغْضَبْ عِنْدَ كُلِّ صَغِيرَةٍ، وَلَا تَجْعَلْ إِخْوَانَكَ يَسْأَمُونَ مُخَالَطَتَكَ بِسَبَبِ سُرْعَةِ وُصُولِكَ إِلَى مَرْحَلَةِ الغَضَبِ الشَّدِيدِ، وَاحْرِصْ إِنْ غَضِبْتَ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى حَالَتِكَ الطَّبِيعِيَّةِ بِسُرْعَةٍ وَيُسْرٍ، وَاحْذَرْ أَنْ تَكُونَ سَرِيعَ الغَضَبِ بَطِيءَ الفَيْءِ فَتَصِيرُ مِنْ شَرِّ النَّاسِ، وَيُخْطِئُ البَعْضُ حِينَ يَظُنُّ أَنَّ الحِلْمَ ضَعْفٌ وَالصَّفْحَ نَقْصٌ وَالأَنَاةَ تَرَدُّدٌ أَوْ عَجْزٌ، إِذْ إِنَّ مِقْيَاسَ الأَخْلَاقِ وَمِعْيَارَها هُوَ مَا جَاءَ بِهِ الشَّرْعُ لَا مَا تُحَدِّدُهُ أَهْوَاءُ النَّاسِ وَتَصَوُّرَاتُهُمْ.

وَكُلَّمَا زَادَ الإِيمَانُ فِي القَلْبِ ازْدَادَتْ مَعَهُ السَّمَاحَةُ وَالأَنَاةُ، وَاتَّسَعَ الحِلْمُ وَنَمَا، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! اُدْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]، فَهَذِهِ هِيَ أَخْلَاقُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ المُشْرِكِينَ، وَنَحْنُ نُطَالِبُكَ بِالْحِلْمِ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَالأَنَاةِ مَعَ المُسْلِمِينَ وَالصَّفْحِ عَنْ إِخْوَانِكَ، وَعَلَى قَدْرِ مَا تَضْبِطُ نَفْسَكَ وَتَكْظِمُ غَيْظَكَ وَتَمْلِكُ قَوْلَكَ وَتَتَجَاوَزُ عَنِ الهَفَوَاتِ وَتَتَحَكَّمُ فِي رَدَّاتِ فِعْلِكَ، ثُمَّ تَقْبَلُ مِنْ إِخْوَانِكَ الأَعْذَارَ وَلَا تُفَتِّشُ عَنْ عُيُوبِهِمْ تَكُونُ مَنْزِلَتُكَ عَالِيَةً وَرَفِيعَةً عِنْدَ اللهِ ثُمَّ عِنْدَ إِخْوَانِكَ.

مقالات مشابهة

لَا تَكُنْ سَرِيعَ الغَضَبِ؛ فَتَصِيرَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ

منذ 0 ثانية

أ. وفا محمود عياد - خطيب بوَزارة الأوقاف

الجهادُ بالمالِ قبلَ الجهادِ بالنفسِ

منذ 2 دقيقة

د. شادي حمزة طبازة - داعية إسلامي

آدَابُ قِيَامِ اللَّيْلِ

منذ 3 دقيقة

أ. محمد البنا - خطيب بوَزارة الأوقاف

أَزْمَةُ الفَهْمِ وعَلاقَتُها بِالْغُلُوِّ وَالتَّطَرُّفِ

منذ 5 دقيقة

د. يوسف علي فرحات - خطيبٌ بوَزارةِ الأوْقاف

الوسائط

هدفنا الارتقاء بأداء العاملين في إدارة المساجد وتطوير الأنشطة المسجديةإقرء المزيد عنا

كُن على تواصل !!

آخر الأخبار

لَا تَكُنْ سَرِيعَ الغَضَبِ؛ فَتَصِيرَ مِنْ شَرِّ النَّاسِ

منذ 0 ثانية2993
أهمية مبادئ الإدارة في الدعوة

منذ 19 ثانية4463
مسجد الأبرار - القرارة

منذ 32 ثانية4755
Masjedna © Copyright 2019, All Rights Reserved Design and development by: Ibraheem Abd ElHadi