الهِجْرَةُ فِي اللُّغَةِ: التَّرْكُ، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ يَلْتَقِيَانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، وَيُعْرِضُ هَذَا، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ« [مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ].
أَمَّا اصْطِلَاحًا: فَهِيَ تَرْكُ الوَطَنِ الذِي بَيْنَ الكُفَّارِ وَالانْتِقَالُ إِلَى دَارِ الإِسْلَامِ، وَهَذَا حَقِيقَةُ مَا حَدَثَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ حِينَ وَقَفَ عَلَى حُدُودِ مَكَّةَ، فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَكَّةَ، قَالَ: «أَمَا وَاللَّهِ لأَخْرُجُ مِنْكِ، وَإِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكِ أَحَبُّ بِلادِ اللَّهِ إِلَيَّ وَأَكْرَمُهُ عَلَى اللَّهِ، وَلَوْلا أَنَّ أَهْلَكِ أَخْرَجُونِي مَا خَرَجْتُ» [رواه الطبراني].
وَقَدْ قَالَ تَعَالى: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [النِّسَاء:100]، قَالَ الإِمَامُ السَّعْدِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ: "هَذَا فِي بَيَانِ الحَثِّ عَلَى الهِجْرَةِ وَالتَّرْغِيبِ فِيهَا وَبَيَانِ مَا فِيهَا مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيا؛ وَذَلِكَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ الهِجْرَةَ شَتَاتٌ بَعْدَ الأُلْفَةِ وَفَقْرٌ بَعْدَ الغِنَى، وَلَيْسَ الأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّ المُؤْمِنَ مَا دَامَ بَيْنَ أَظْهُرِ المُشْرِكِينَ فَدِينُهُ فِي غَايَةِ النَّقْصِ لَا فِي العِبَادَاتِ القَاصِرَةِ كَالصَّلَاةِ وَنَحْوِها"، ثُمَّ قَالَ: "فَإِذَا هَاجَرَ فِي سَبِيلِ اللهِ تَمَكَّنَ مِنْ إِقَامَةِ دِينِ اللهِ وَجِهَادِ أَعْدَاءِ اللهِ"، وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الهِجْرَةِ.
وَهُنَاكَ نَوْعٌ آخَرُ لَا يَقِلُّ أَهَمِّيَّةً عَنِ الأَوَّلِ، وَهُوَ هِجْرَةُ المَعَاصِي، بِمَعْنَى الابْتِعَادِ عَنْها، فَعَنْ أُمِّ أَنَسٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَوْصِنِي، قَالَ: «اهْجُرِي الْمَعَاصِيَ؛ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْهِجْرَةِ، وَحَافِظِي عَلَى الْفَرَائِضِ؛ فَإِنَّهَا أَفْضَلُ الْجِهَادِ، وَأَكْثِرِي مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ؛ فَإِنَّكِ لا تَأْتِينَ اللَّهَ غَدًا بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِهِ»، وَالمُهَاجِرُ عَرَّفَهُ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الحَدِيثِ، فَقَالَ: «وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ» [رواه الطبراني].
أَمَّا عَنْ دَلَالَاتِ هِجْرَةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَكَّةَ إِلَى المَدِينَةِ، فَأَذْكُرُ بَعْضَها:
أَوَّلاً / التَّخْطِيطُ الجَيِّدُ المُسْبَقُ قَبْلَ القِيَامِ بِأَيِّ شَيْءٍ: فَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعَدَّ لِكُلِّ شَيْءٍ عُدَّتَهُ مِنَ السِّرِّيَّةِ التَّامَّةِ وَاخْتِيَارِ الدَّلِيلِ الآمِنِ الذِي يُرْشِدُهُمْ إِلَى الطَّرِيقِ، وَسُلُوكِه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ وَصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِيقِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عِنْدَ خُرُوجِهِمَا طَرِيقًا تَسْتَبْعِدُ قُرَيْشُ أَنْ يَسْلُكَهُ أَحَدٌ، وَالعَمَلِ عَلَى مَحْوِ آثَارِ أَقْدَامِهِمَا وَاخْتِبَائِهِمَا فِي غَارِ ثَوْرٍ حَتَّى يَنْقَطِعَ عَنْهُمَا الطَّلَبُ، وَغَيْرِهَا مِنَ الأُمُورِ التِي حَدَثَتْ أَثْنَاءَ الهِجْرَةِ، وَفَوْقَ ذَلِكَ كُلِّهِ التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ.
ثَانِياً/ طَرِيقُ الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ فِيهَا أَشْوَاكٌ: فَدِينُ الإِسْلَامِ لَمْ يَصِلْ إِلَيْنا بِسُهُولَةٍ، إِنَّما تَعِبُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالصَّحَابَةُ، مِمَّا اضْطُرُّوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ مَسْقَطِ رُؤُوسِهِمْ حَتَّى يُحَافِظُوا عَلَى هَذَا الدِّينِ، فَلِنُحَافِظْ عَلَيْهِ كَمَا حَافَظَ الأَوَّلُونَ.